الخميس، 18 فبراير 2016

منهج الحِجاج في القرآن الكريم "دراسة في أصول المحاجة"

خطبة البحث* : الحمد لله ذي النَّعماء السابغة, خَلق الإنسان وعلمَّه البيان, وأنزل كتابا حُجَجُهُ بَالغة, تَقذِفُ بالحقِّ على الباطلِ فإذا هي دامغَة, والصلاة والسلام على من أوتي جوامع الكلم السائغة, الذي ابتعثَه الله ليهدي الناس الرائغة إلى جادة الدين اللائقة, ثم الرضا عن الصحب والآل الذين جاهدوا في سبيل الله بألسنتِهم ذَوي الحُجَجِ الواتغة .
وبَعدُ :
فَقَدْ عرَفَ الفِكرُ الإسلاميُّ في فَتَراتٍ مُختَلفَةٍ فُنوناً مِنَ الجَدلِ والمناظَرةِ والخِلافِ, في شتَّى العُلومِ والمَعارفِ, حتى إنَّ عِلماً قَائِمَ الذَّاتِ نَشأَ مِنَ الخِلافِ حَولَ أُصُولِ الاعتقاد, وكانَ ممَّا يُطلَبُ مِنَ المُنتَمينَ إليهِ؛ أنْ تَكونَ لَهُم قُدرَةٌ عَلى المُخاصَمَةِ, والمُقَارعَةِ, والظُّهورِ على الخَصْمِ بالحُجَّةِ؛ لِبيانِ فَسادِ رَأيهِم وتَهافُتِ مُعتَقَدِهِ, وهو ما يسمَّى بِعلمِ الكَلام, الَّذِي رَأى فِيهِ أنْصارهُ أحكَمَ أداةٍ للذَّبِّ عَن العَقيدةِ وتَخليصِهَا مِن دَرَنِ الشِّركِ . حتى قالوا: "لولا الكلامُ لَمْ يَقُمْ للهِ دِينٌ, ولَم نَبِنْ مِنَ المُلحِدين (...)ولا بَانَتِ الحُجَّةُ مِنَ الحِيلَة والدَّليلُ مِنَ الشُّبهَة "([1]) .
وانطلاقاً من هذا الوعي جاء عكوفُ الكثيرين على دراسة الحجَّة وأقسامها ومعانِيها ودِلالاتها, فكان النِّتاجُ علوماً شتَّى تندرج تحت ما يسمى بعلوم المنطق والاستدلال .
والحجَّة في أجلى معانيها تقومُ عَلى إثبات صِحَّةِ الدعوى أو نَفيُ البُطلانِ عنها, إذ هي تَقومُ مَقامَ الدَّليلِ وتَسدُّ مسَدَّه كَما يصرِّحُ بِذلكَ الجُرجَاني في تَعريفاته([2]), لكنَّ الأمر الذي آلت إليه تلك الدراسات جدُّ محيِّرٍ, ومنبعُ هذه الحيرةِ في اقتصارها على دراسة مقابلةِ الحجةِ بالحجة, وما ينتج عَن تلك المقابلةِ من أشكالٍ وصورٍ دونَ ما تتركُ من أثرٍ أو ما تَؤمُّ من غاية, وهذا يؤول بنا إلى طرح السؤال الآتي: أليست الغاية من الحجَّة هي الحمل على الفعل بعد إثبات الصحة أو عكسُ ذلكَ ؟. وإذا كانت كذلك فإنِّ هذا يعني أن غرضَ الحجةِ هو الأساسُ الذي من أجلهِ تمَّ بناؤهَا, فلمَ العزوفُ عن الغايةِ وقصرُ الاهتمامِ بالشكلِ طالما أنهُ لها عِماد وهيَ لَهُ امتداد ؟
إنَّ قصرَ الاهتمام على أشكال الحجَّة وإحكامِ بنائهَا أنتجَ لنا جداراً يحولُ دونَ تحقق الغاية المرجوَّة منها؛ وهي إقناع المتلقي والحصولُ على استجابته, وما ذلك إلا لاصطباغها بالجانب المنطقي الصارم الذي همُّه الإلزامُ والإفحام, لاسيَّما وأنَّ هذا اللون غالباً ما يَبوءُ بالعقمِ كما هو حالُ إبراهيم عليه السلام مع النمروذ الذي بُهت لما حاجَّه . لذلك نجد التوجيه الإلهي للرسل أن يكون خطابهم ليِّناً, وأن يقولوا للناس حُسنا, وألا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن . وهذا المنهج حقيقٌ بالوصول إلى الغاية المنشودة .
وفي منتصف القرنِ الماضي ظهرَ تيارٌ في الغرب يحاول أن يعيدَ للحجَّة ألَقَها؛ أفضى من بين ما أفضى إليه إلى ظهور نظرية الحجاج التي تُعنى بـ "درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يَعرِضُ لها من أطروحات, أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم"([3]), وغايتها جعل العقول تذعن لما يطرح عليها من آراء, أو أن تزيد في درجة ذلك الإذعان, فأنجعُ الحِجاج ما وفِّقَ إلى جعل حدِّة الإذعان تقوى درجتها لدى السامعين بشكل يبعثهم على العمل المطلوب, أو هو ما وفِّق إلى جعل السامعين مهيئين للقيام بذلك العمل في اللحظة المناسبة"([4]) .
وقد كان توجهي لدراسة تلك النظرية من خِلال أصولِها المبثوثة في منهج القرآن, الذي شكَّل خطابه فضاءً تتحاور فيه العقول, وتتجادل فيه الأفكار, في محاجَّات لافتةٍ وشائقة, وأمسى خطابُه جاذباً معرفياً للعقولِ والقلوبِ معاً, فلا عجبَ إذن أن يستجيب له المخلصون, وأن يصيخوا إليه السمع , وأن يلتزموا قضاياه ويتَّبعوا شريعته .
وكان من حوافزي على الانشغالِ بمثل هذا الموضوع, هو البحث عمَّا يمكن أن يجلِّي تلكَ المسائل ويدرجها تحتَ عنوانٍ جامع, فكان أن اهتديتُ إلى هذا المصطلح الحادث "الحجاج" ورأيت فيه مجلىً معرفياً لما كنت أقصده من وراء هذه الدراسة . 
والغايات التي أمَّها هذا العمل ثلاث, إحداها مترتبةٌ على الأخرى ترتب النتيجة على السبب, فصيَّرت كلَّ غايةٍ فصلاً مستقلاً تمَّ من خلاله إثباتها, فكانت الغاية الأولى: إثباتَ أنَّ للحِجاج مفهوماً أوسعَ منَ الجدل, وعدمَ قصرِ دراسة هذا الجانب من الإقناع على المفهوم الجدلي الذي وجدَ عِنايةً كبيرةً بين كَثيرٍ من الدارسين في القديم والحديث . والغايةُ الثانية: أنَّ الخطابَ القرآني خطابٌ حجاجي, وكونَّه حجاجياً لا ينفي بطبيعةِ الحالِ وجودَ معانٍ أخرى كثيرةٍ وقفَ عليها المفسِّرونَ والمتأولَةُ أو يمكن أن يقفُوا عليها . أما الغاية الثالثة: فقصدتُ بها التوكيدَ على أنَّ الحجاجَ كان ولا يزالُ أحدَ أهمِّ أشكال تقرير قضايا العقيدة .
وقد نهض البحث في منهجه على تتبع الآيات ذات الفحوى الحجاجي تتبعاً استقرائيا يُفضي إلى دراسة هذه الآيات دراسة نتوصَّل من خلالها إلى الوقوف على أهم أصول المحاجَّة المعتمدة في الخطاب القرآني . أمَّا خُطَّة البحث فقد هاءت على فصولٍ ثلاثةٍ, يتقدَّمُها على سبيل التوطئة والتمهيد؛ المقدمِّة لتشتمل على دَاعية البحث, وإشكاليته, وغاياته, ثم لِتوضِّحَ سببَ اختيار البحث ومنهَجَه وخُطَّتَه .  
ثمَّ كانَ الفَصلُ الأوَّل: (مُدْخَلٌ إلى علم الحِجاج) في مباحث ثلاثة, دارت على تعريف واستعمال "الحجاج" وتاريخه, فكان أوَّلُها حول تعريف الحجاج في اللغة والاصطلاح, وبيان المصطلحات ذات الصلة . وثانيها: استعمال القرآن لمصطلح الحجاج . واشتمل آخرُها على دراسةِ تأريخيةٍ للحِجاج وتطوره .
أمَّا الفصل الثاني: (أركان الحِجاج القرآني), فعُنِيَ بدراسة أركان الخطاب من خلال أربعةِ مباحثَ رئيسة : 
عرض أوَّلُها للركنِ الأول : المخاطِب, وقد وضَّح تنوعَ المخاطِبِ إلى أصلٍ, وهي الذاتُ القائلة جل وعلا, وبشرٍ مبلغٍ r, ورمزٍ تنوَّعَت أحوالُه . 
ثم عرض المبحث الثاني الركنَ الثاني: المخاطَبُ, وكان أيضاً بين مخاطَبٍ أصلٍ وهو الإنسان على امتداد زمانه واختلاف مكانهِ, ومخاطَب أوَّليٍ وهم من نزلَ الخطاب بين ظهرانِيهم, ومخاطَبٍ مثالي باعتبار حالِ سامع الخطاب . 
وجاء الركنُ الثالثُ : الخِطابُ, وقد انبَسطَ في مطلبين: الأول منهما من حيث المفهوم, والآخر من حيث الأسلوب . 
ثم جاء الركنُ الرابعُ : فعُنيَ ببيانِ غاية الخطاب القرآني, ونظَمهَا في ثلاث غاياتٍ كبرى متلاحمة, فكان منها غاية بيانية, وغاية هدائيةٌ, وغايةٌ رحمويَّة على ما فصَّله البحث في محله. 
أمَّا الفصل الثالث: (قضايا الحجاج القرآني "الاعتقاد نموذجاً") فقد جاء ليستَجليَ قضية الاعتقاد من زاوية حجاجية وقد كان ذلك في مباحثَ ثلاثة : 
جاء أولها موضِّحاً مفهوم الاعتقاد ومبيناً أهمَّ قضاياه التي انتظمت في ثلاث قضايا كبرى, وهي: (الله – الرسول – اليوم الآخر) . 
ثم جاء المبحث الثاني ليبيِّنَ موضوع الحجاج ومحَلَّه في القضايا السابقة الذِكر, وقد دار موضوع كلِ قضية بين الإثبات والنفي . 
وجاء المبحث الثالث ليُشِيرَ إلى أبرز مظاهر الحجاج القرآني, ومن ثَمَّ ليُعنى بأهمِّ هذه المظاهر -من حيث تناسبها مع القضايا- وهو الحجاج بالمقتضى, على ما فصَّله البحث في مَحلِّهِ .   
ثم كانت الخاتمة: عرضاً لأهمِّ النتائجِ المستخلصة من البحث, والتوصيات التي خلَصَ إليها الباحث.
وتداركاً لما قد يجده القارئ في بعض المباحث من لَبْسٍ أو تقصير, فقد زيَّلت البحث بطائفة من المكملات والملاحق البيانية, منها:
أوَّلا: ملخَّصٌ عن البحث باللغة العربية والإنكليزية والفرنسية .
ثانياً: كشفٌ بالكتب التي عُنيت بدراسة ذلك الموضوع في التراث الإسلامي حتى القرن العاشر الهجري .
ثالثاً: مشجَّرٌ تصدر كلَّ فصل من فصول هذه الرسالة لأدلِّل به على الترابط والتعاضد القائم بين أصول البحث وفروعه .
وأسأل الله أن يجعل هذه المناقشة محلَّ فائدة علميةٍ لي ولجميع الحاضرين الأكارم .
"رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ"
                                                    والحمد لله رب العالمين .
  

 * هذه الخطبة ألقيت بتاريخ 2-10-2010 في جامعة الجنان تمهيدا لمناقشة رسالة الماجستير في العقيدة . 
([1])  الجاحظ : الرسائل , تحقيق عبد السلام محمد هارون , مصر ج4, ص246

([2]) انظر, الجرجاني: التعريفات, تعريف الحجة, ص112

([3])  انظر: عبدالله صولة : الحِجاج أطره ومنطلقاته وتقنياته, ص 301

([4])  المرجع نفسه, ص 308

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق